454545

لعبة الصبر: كيف أعاد تعديل قانون الأحوال الشخصية النساء إلى شوارع العراق؟

هناك حكاية كانت أمهاتنا ترددها على مسامعنا في جنوب العراق، وبالصدفة يبدو أن لها جذورا أفغانية، تفاصيلها مختلفة بين منطقة وأخرى، لكن ثيمتها واحدة: القهر.

القصة المعنونة جنوبيا بـ”لعيبة الصبري”، أي “لعبة الصبر” بالعربية الكلاسيكية، تدور عن امرأة، يختطف بعبعٌ والدها وإخوتها، وتُجبر على الصمت لسنوات، ثم تهرب وتتزوج، ليأتي البعبع مجددا، ويخطف أولادها الثلاثة، واحدا تلو الآخر، وهي عاجزة عن الحديث، لأنها مهددة في كل مرة بخسارة أكبر، لو تحدثت عن أول طفل مخطوف فسوف يقتل البعبع الثاني؛ وإذا تكلّمت عن الثاني فسوف يقتل الثالث، وهكذا. في نهاية القصة تشتري المرأة “لعبة الصبر”، وهي عبارة عن كرة صغيرة، تجلس أمامها وتسرد مصائبها، وكلما كبرت المصيبة يزداد حجم الكرة، وعندما باتت الهموم أكبر من أن تتحملها الكرة، انفجرت، لتخرج منها دماء، تؤدي لمقتل بطلة القصة، لأن ما عانت منه فوق احتمال البشر، ولعبة الصبر نفسها، والموت هو الحل.

قيل بعد ذلك أن البعبع المقصود في القصة هو صدام حسين، الذي أدت حروبه العبثية لمقتل آلاف الأبناء والآباء والأخوة، وبالطبع لم تستطع أية امرأة معارضته، وإلا كانت ستقتل هي وكل عائلتها. أُعدم البعبع الذي ابتلع الجميع فيما بعد، ليخلّف بعده جموعا من فصيلته، تخيف النساء وتخطف أحلامهن، لدرجة أن غالبيتهن سكتن عندما تعرضن للضرب، والتشويه، والإساءة، والمنع، والوصم، والحبس، والعنف اللغوي، وارتضين أن يكنّ أمهات فقط، ولكن حتى هذا الدور يريد البعبع المعاصر، الذي يحكم العراق، ابتلاعه، لذا انفجرت كرة الصبر، وخرجت النساء إلى الشوارع، لمواجهة تعديل قانون الأحوال الشخصية، الذي تريد حكومة الإطار التنسيقي، الموالية لإيران، فرضه. فهل يمكن للنساء أن يغيّرن معادلة الصبر؟ أم سيأكلهن البعبع كالعادة؟  

إغلاق المساحات: لماذا تلاحق الحكومة النساء إلى المنازل؟

تعرضت النساء العراقيات منذ سنوات لجملة من الانتهاكات، لا يمكن حصرها، بدءا من قانون العنف الأسري الذي يرفض المسيطرون على السلطة تشريعه، وقانون جرائم الشرف، وصولا إلى هيكلية الحكومة، التي تُعنّف النساء، حتى بوجود قوانين منصفة لهن. فقد أُفرغت القوانين من فاعليتها، وأضيفت عليها إجراءات جديدة، تحدّ من فعاليتها، خصوصا في السنتين الأخيرتين، بعد تسلّم الإطار التنسيقي الحكم، والذي ألحق بجملة القوانين المجحفة منع تداول مصطلح “الجندر”؛ التضييق على المنظمات النسوية؛ منع النساء من التواجد في الساحات العامة، مثلما حدث في ماراثون البصرة؛ فضلا عن الخطاب الذي تبنّته عدة هيئات دينية، في منع النساء من السير خلف المواكب الحسينية.

لذا، ومع إغلاق الحكومة للمساحات المشتركة، وقمع النساء بقوانين تجبرهن على البقاء داخل منازلهن، للاستفادة من هذه الإجراءات مجتمعيا، وفيما بعد انتخابيا، في ظل بيئات كارهة للنساء، لم يبق للنساء دور يلعبنه سوى دور الأم والزوجة. لكن الحكومة الإطارية لاحقت النساء إلى داخل المنازل، لتفكيك هذا الدور، ولا يكون ذلك إلا بتعديل قانون الأحوال الشخصية، والذي يتضمّن حق الحضانة والميراث والنفقة، وغيرها من الحقوق، التي من شأنها حفظ القليل من كرامة الزوجة.

سمك بالشط: كيف يناقش مجلس النواب مشروعاً بدون مواد؟

على طريقة “شراء السمك بالشط”، كما يقول المثل العراقي، يطرح تعديل قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959 مرة أخرى (سبق طرحه مرات عديدة في سنوات متفرّقة)، ولا يحتوي التعديل سوى على مسودة، بدون مواد يمكن قراءتها ونقاشها، مع إعطاء مجلس النواب الضوء الأخضر للمجلس العلمي السني والشيعي، لكتابة مدوّنة شرعية خلال ستة أشهر.

تحدث كثيرون عن كارثية الفكرة، لأن المقترحات القانونية أمر يختص فيه مجلس النواب، ولا يمكن تفويضه لسلطة خارج السلطة التشريعية، فما بالك أن تكون سلطة رجال الدين.

ولهذا نرى كثيرا من الأطراف يجادل بعدم عقلانية مواد، ما زالت غير مكتوبة، رغم أن آراء المذهبين في هذه القضايا واضح، لأنها تعتمد على الرأي الفقهي المشهور للمذهبين (حسب المسودة المقدمة إلى مجلس النواب)، وحتى لو كان لطرفي الزواج مذهب “معتدل”، إلا أن زواجهما سوف يكون حسب الرأي المشهور، لا حسب انتمائهما إلى مرجع محدد، وهذا أيضا يتنافى مع “حرية المذهب”، التي يتبجّح بها المدافعون عن التعديل.

وبالاعتماد على ما هو مشهور في الرأي الفقهي، يمكننا معرفة المستقبل المظلم للنساء في العراق، وإدراك كارثية تحويل الأحوال الشخصية من شكلها القانوني إلى شكلها المذهبي، ما سيؤدي إلى عدة مشاكل، أهمها مشاكل إثبات الزواج والنسب الناتج عن تزويج القاصرات، بسبب إلغاء العقوبة الجنائية على الزواج خارج المحكمة. وحسب منظمة “يونيسيف”، فقد استمرت معدلات زيجات الأطفال تحت سن 18 سنة بالازدياد في العراق، خلال السنوات العشرين الماضية، بنسبة 28%. كما أن نسبة 22% من الزيجات غير المسجّلة هي لفتيات دون سن  14 سنة، بحسب “بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق” (يونامي).

إضافة لكل هذا، سيجعل التعديل الجديد الأمور أسوأ فيما يخصّ معظم الأحكام في قضايا الحضانة، التي ستحيل الحضانة إلى الأب بعد انتهاء مدة الرضاعة؛ وستقضي بعدم وراثة الزوجة للأرض؛ وأيضا تفرض شرط النفقة بالاستمتاع، لتصبح المرأة وعاءً إنجابيا، أو أداة جنسية للمتعة فقط.

كل هذا ما فجّر التظاهرات، بتاريخ الثامن من آب/أغسطس 2024.

العنف الأخلاقي: ما التهم الجديدة التي ستوصم بها النساء؟

لطالما تم تسييس الحراك النسوي في العراق، ليخلق صراعا بين النساء أنفسهن، إذ تُفرض جملة من الأخلاقيات عليهن من قبل رجال السلطة، تمتثل لها الضحايا أنفسهن، بحيث يصبحن متواطئات مع اضطهادهن, وعند بروز نساء لا يلائمن الصورة المفروضة لـ”المرأة العراقية”، من ملبس وطريقة حديث، سيوصمن بقلة الشرف، والعمالة، والترويج لأجندة غربيّة. لقد سيطرت الصراعات الأخلاقية حول من تمثّل النساء في المشهد النسوي، إلى درجة أننا وصلنا لمرحلة اليأس من إمكانية وجود مساحة مشتركة للنسوة كلهن، يمكن أن تكون خالية من الأحكام الأخلاقية، وسياسات الهيمنة.

لذا، ومع إصرار جملة من أعضاء مجلس النواب على تمرير تعديل قانون الأحوال الشخصية، رغما على الجميع، ليصل الأمر إلى حد قراءة القانون قراءة أولية، بدون إبلاغ النواب قبل الجلسة، وحتى عدم وضع التعديل في جدول الأعمال المنشور، برزت مساحة لم يُحسب حسابها مسبقا من قبل السلطة، مساحة جعلت كثيرين يتخبطون في اتهاماتهم. إذ كانت الصفحات على وسائل التواصل، والمشاهير من المتدينين، يصمون كل النساء الرافضات لتعديل القانون قبل التظاهرات، بتهم مثل “بعثيات”، “بنات السفارة”، “ممثلات إباحيات” و”سافلات”، لكن بعد التظاهرات، خصوصا تلك التي انفجرت في النجف، وجدوا ما فاجأهم: نساء يشبهن أمهاتهم وأخواتهم وزوجاتهم، نساء لا يختلف في نمطيتهن اثنان، لذا عليهم الآن إيجاد طريقة جديدة لمنعهن من المعارضة.

في الغالب لن يُقَرّ تعديل القانون الآن، إلا أنه سوف يُمرر في المرة القادمة، عندما ينجح أنصار “الأخلاق” يتشذيب أدواتهم مجددا، ويخترعوا طرقا جديدة لقمع النساء.

“مرأة، حياة، حرية”: هل انتهت الحرب العراقية-الإيرانية؟

انفجرت التظاهرات النسائية ضد تعديل القانون في الذكرى السنوية لانتهاء الحرب العراقية-الإيرانية، التي استمرت لثماني سنوات، وانتهت بسقوط كثير من القتلى بين طرفيها. وقد كانت حربا خلقت لنا من حكموا العراق بعد 2003، الذين عادوا من جبهات القتال، ليعلنوا بعد الاحتلال الأميركي ولاءهم المطلق لإيران، اقتصاديا واجتماعيا، على حساب بلدهم.

يبدو أن حربنا العسكرية مع إيران انتهت، لكن حربنا مع الفكر الإسلامي الإيراني وأذياله لم تنته. تغيّرت أطراف الحرب، لتتحوّل من معركة بين دولتين، إلى معركة بين نساء الدولتين من جهة، وحكومة الملالي وأتباعها من جهة أخرى، التي تريد استعباد النساء، وتحويلهن لأدوات إمتاع وانجاب.

يمكن فهم مستقبل التظاهرات في العراق من خلال تظاهرات إيران، إذ لا يخلو أي احتجاج هناك من النداء بحقوق النساء، ويضعهن في مقدمة شعاراته: “مرأة، حياة، حرية”. وهذا ما سيحدث إذا ما استمر العراق في تبني خطاب الكراهية ضد النساء، ومحاولة قمعهن، إذ لا فرق بين نساء إيران ونساء العراق، وإن اختلفت الدوافع المباشرة، ففي حين كان رفض الحجاب مساحة الإيرانيات المشتركة، كانت الأمومة مساحتنا، ومثلما لا فرق بيننا نحن النساء، فلا فرق بين حكومتينا بالبطش وكراهية النساء.

Comments are closed.