9 (6)

إشكالية القضاء في العقل الديني الشيعي كيف يتحرر عقل الفقيه طواعية مما جمعه تاريخيا من سلطات في يده؟

أزمة الفقه الإمامي مع القضاء ليست جديدة، بل هي قديمة جدا وتعود إلى زمن حياة أئمة هذا المذهب، الذين كانوا يوصون أتباعهم بعدم التقاضي إلى قضاة الدولة الأموية والعباسية، ويشددون النكير على من يفعل ذلك من اتباعهم. وقد تضمنت المدونات الروائية الإمامية (انظر مثلا: الكليني، الكافي، كتاب القضاء والأحكام، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور) أوصافا في غاية السوء بحق هؤلاء القضاة والمتقاضين عندهم. في المقابل حملت تلك المدوّنات تعاليم صريحة بضرورة التقاضي إلى أشخاص من داخل الجماعة الدينية التي توالي الائمة، أشخاص “نظروا في حلال وحرام الأئمة وعرفوا أحكامهم”، فأمرت الموالين لهم بـ “اختيار” واحد من أعضاء الجماعة ممن يحمل تلك المواصفات والامتثال لما يحكم به، بل واعتبرت موقف الأشخاص الذين لا ينصاعون لحكم القاضي المنتخب رفضا لتعاليم الإمام وردا عليه؛ وبالتالي رفضا وردا على الله ورسوله. والرواية الآتية تلخص جميع ما تقدم: (عَنْ عُمَرَ بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ فِي دَيْنٍ أَوْ مِيرَاثٍ، فَتَحَاكَمَا إِلَى السُّلْطَانِ أَوْ إِلَى الْقُضَاةِ أَيَحِلُّ ذَلِكَ؟ قَالَ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ كَانَ مِنْكُمْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا وَنَظَرَ فِي حَلَالِنَا وَ حَرَامِنَا وَعَرَفَ أَحْكَامَنَا فَارْضَوْاُكْمِ الطَّاغُوتِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُكْفَرَ بِهِ. قُلْتُ: كَيْفَ يَصْنَعَانِ؟ قَالَ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ كَانَ مِنْكُمْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا وَنَظَرَ فِي حَلَالِنَا وَ حَرَامِنَا وَعَرَفَ أَحْكَامَنَا فَارْضَوْا بِهِ حَكَماً، فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِماً، فَإِذَا حَكَمَ بِحُكْمِنَا فَلَمْ يَقْبَلْهُ مِنْهُ فَإِنَّمَا بِحُكْمِ اللَّهِ قَدِ اسْتَخَفَّ وَعَلَيْنَا رَدَّ وَالرَّادُّ عَلَيْنَا الرَّادُّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى حَدِّ الشِّرْكِ بِاللَّهِ).
استمر العمل بهذه التوصيات من قبل الجماعة الشيعية في فترة حياة الأئمة، حتى “اعتادت” تلك الجماعة على العمل بها، فكانت حياتها مستقلة تماما عن الدولة وأنظمتها القضائية، تعيش في عزلة عن الأوساط الاجتماعية التي تتواجد فيها. ومنذ بداية ما يسمى بالغيبة الكبرى في سنة (٣٢٩) هجرية طوّر الفقه الإمامي من دينامية عمله الداخلية، واطلق نقاشا حول نقطة جوهرية، يلخصها السؤال التالي: من هم أولئك الأشخاص الذين اعتبرتهم تعاليم الأئمة (عارفين) بفتاوى الأئمة و(ناظرين) فيها؟ وما هي طبيعة تلك (المعرفة) وهذا (النظر)؟
أحدث هذا السؤال انقساما بين الشيعة الإمامية، فذهب فريق منهم إلى القول إن (العارفين) بأحكام الأئمة، (الناظرين) في حلالهم وحرامهم، هم (الفقهاء)، أي الذين يفقهون (بمعنى يفهمون) كلمات الأئمة ومقاصدهم، وليس مجرد (الناقلين) لتلك الكلمات من “رواة الحديث”، فإن هؤلاء وإن كانت لهم فضيلة نقل الأحاديث ولكنهم ليسوا بالضرورة يفهمونها (أي يفقهونها)، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، والعلم دراية وليس رواية. وهذه الدراية هي لون من (الاعتبار)، أي التبصّر في الأشياء وتدبرها وأخذ العبرة منها. من هنا أطلق هذا الفريق على نفسه اسم (أهل الفقه والاعتبار) (تجد هذا المصطلح مستخدما بكثرة في كتاب “أوائل المقالات” للشيخ المفيد). كان العمل الأهم الذي قام به هذا الفريق هو استخدام الفاظ قرانية خاصة (فقه، اعتبار) واعطائها مداليل محددة تدعم عمل فئة محددة، فالقران حثّ على “التفقه” فقال: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا الدين)، وأوصى بالاعتبار فقال: (فاعتبروا يا اولي الأبصار)، وكل ما كان على هذا الفريق فعله هو تطبيق هذه المصطلحات في السياق الجديد من أجل دعم موقفهم كجماعة معينة لها وظيفة خاصة. ومنذ الآن فصاعدا سيعني لفظ “الفقيه” ليس فقط ما يشير إليه معناه اللغوي (أي الشخص صاحب الفهم، البصير، في دراسة موضوعه) بل ما يمثله الفرد المنضوي تحت تلك الجماعة خاصة التي تقوم بوظيفة محددة، هي فهم النصوص الدينية.

Comments are closed.