amaad-r

تعديل قانون الأحوال الشخصية، نقطة نظام

عماد رسن

مرة أخرى، يثير مقترح تعديل قانون الأحوال الشخصية لغطا في البرلمان وجدلا في الصحافة وحوارا أيضا في اندية مختلفة منها منصات التواصل الاجتماعي. مقدمو الاقتراح يستندون على المادة 41 من الدستور العراق والتي تنص على أن العراقيين احرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية، حسب ديانتهم أو مذهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم. الرافضون لهذا التعديل يقولون إن فكرة تكييف قانون عام على اجتهادات فقهية مذهبية ودينية ربما سيؤدي إلى مأسسة الحالة الطائفية من خلال سن قوانين تقسم المجتمع طائفيا وتعود به إلى قوانين دينية تكون المرأة أول ضحاياها.
ما بين حرية الالتزام بأحوال الفرد الشخصية وبين قوانين عامة تحول دون تقسين المجتمع مع الحفاظ على الخصوصية مسافة لم يملئها المشرع العراقي ونقطة هامة لم تلتفت إليها المؤسسات الحكومية أو الأحزاب السياسية أو الفاعليين السياسيين. نعم، لقد أكد الدستور العراقي على حالة التنوع من خلال النص في المادة 1 على أن العراق دولة اتحادية والمادة 2 و 3 بأن العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب وأن عليه الحفاظ على الحقوق الدينية لتلك المجموعات مع الحفاظ على هوية العراق الإسلامية، لكنه في الوقت نفسه لم يحدد كيف يمكن إدارة هذا التنوع عمليا وكيف يمكن أن تترجم إدارة التنوع على أرض الواقع.
في الكثير من الدول الديمقراطية التي تحتوي على مجموعات عرقية ودينية وثقافية مختلفة مع وجود هجرة مستمرة توضع قوانين أو مواثيق ضمن استراتيجية تنظم عملية التنوع وتحافظ عليها. مثلا، في كندا يوجد هناك ما يسمى بقانون التعددية الثقافية (The Canadian Multiculturalism Act) وواحدة من استراتيجيات تطبيقه (Cultural Grants and Programs)، وفي استراليا سياسة التعددية الثقافي (The Multicultural Policy) وواحدة من استراتيجيات تطبيقها (The Federal Multiculturalism Act)، وفي بريطانيا قانون العلاقات بين الاعراق (The Race Relations Act) وواحدة من استراتيجيات تطبيقه (The Equality Act). تختلف هذه القوانين واستراتيجيات تطبيقاتها حسب نظام التعدد الثقافي لكل دولة. فهناك مثلا النموذج الهندي في التعددية الثقافية (Pluralist Multiculturalism) والذي يركز على أن لكل ثقافة الحق في إدارة شؤونها الخاصة في عملية تعايش سلمي في اطار وطني عام. النموذج البريطاني (Civic Multiculturalism) يركز على القيم المدنية المشتركة مع إدماج المجموعات الثقافية المتنوعة في الإطار السياسي والاجتماعي للأمة والذي يعزز الشعور بالانتماء للهوية الوطنية. النموذج الذي يدعو الافراد لتبني ثقافات متعددة في إطار كوسموبوليتيان ثقافي (Cosmopolitan Multiculturalism) هو في الولايات المتحدة. تحول تلك القوانين واستراتيجيات تطبيقها دون التصادم بين ما هو فردي وجماعي، خاص وعام، خصوصي ثقافي (يشمل الديني والطائفي) وسياسي عام، هوية ثقافية فرعية وهوية وطنية، وهكذا. تعمل تلك القوانين واستراتيجياتها كالضابط لإدارة التنوع ولفك الاشتباك في تصادم المختلفات.
حتى هذه اللحظة، لم نعرف ما هو النموذج العراقي في عملية التعايش السلمي والتنوع الثقافي والاندماج بين كل تلك التفرعات في علاقتها بالهوية الوطنية، بالأمة، وبالأفراد، وإن وجد فهو غير واضح المعالم. واقصد بالنموذج ليس على مستوى التنظير بل على مستوى التطبيق في مؤسسات الدولة والثقافة السياسية وعلى المستوى الاجتماعي من خلال رفع حالة الوعي و على المستوى الإعلامي كالحضور والمحتوى في المجال العام. لا أدري إن كان المشرع والسياسي العراقي منتبه لهذه النقطة المفصلية المهمة في علاقة الفرد بالدولة وعلاقته بمجموعته التي ينتمي إليها، وعلاقات تلك المجموعات ببعضها، وعلاقة تلك المجموعات بالدولة ومؤسساتها عمليا وليس دستوريا. ينظم ذلك النموذج العلاقات بقوانين واستراتيجية تدعم من خلال برامج مشتركة تدخل مناهج التعليم حيث تقوم وزارة التربية والتعليم بتمرين التربويين على إدارة التنوع. يدعم النموذج أيضا حملات التوعية الشعبية وغيرها من خلال الثقافة والدراما وإقامة الورشات في كل مؤسسات الدولة. دعم منظمات المجتمع المدني في عملية دعم التنوع والحفاظ عليه ومنع أي تمييز عرقي أو ديني أو جندري أو عمري حيث إن كل ذلك هو واحدة من مهامها ضمن هذا النموذج المفقود. وضع قوانين ولوائح تدعم التمييز الإيجابي للأفراد والفئات المتضررة في المجتمع للمحافظة على حالة المساواة في المواطنة. وضع استراتيجية تدعم حالة الاندماج في المجتمع من خلال دعم مشاركة الفئات والمجموعات الأقل حضورا في العمل السياسي والثقافي دون ذوبان هويتها الثقافية الفرعية بالهوية المهيمينة. فصل بين ما هو ثقافي وسياسي من خلال دعم الهويات الثقافية دون تحويلها لهويات سياسية تنافس الهوية الوطنية.
نعود لمقترح تعديل قانون الأحوال الشخصية والتوافق بين الحرية الفردية والالتزام بقانون الجماعة أو الأمة. لو كان هناك ذلك النموذج الضابط واستراتيجيته التي تنظم عملية التنوع موجود لما دخلنا في هذا المأزق الذي سوف يتكرر مع اقتراح قوانين أخرى. فمن ناحية، لا يمكن المساس بالحرية الفردية كون الدستور قد نص عليها، فلكل فرد الحق بأن يتبع الطريقة التي يعتقد أنها صحيحة في احواله الشخصية ولكن يجب ألا يتعارض ذلك مع قوانين دستورية أخرى. فمن حق الفرد أن يتزوج ممن يريد وحسب المعتقد والشريعة التي يعتقد بها لكن ذلك لن يكون قانونيا ولن يصدق عليه القاضي إذا خالف مادة دستورية أخرى أو قانون آخر، كالمادة التي تنص على أن العراقيين متساوون أمام القانون وبالتالي لا يمكن للفرد أن يسن قانون ميراث خاص به يحرم به المرأة من وراثة عقار تركه أبيها حسب الفقه الجعفري فقط كونها امرأة. أو لا يمكن أن يكون زواج القاصر قانونيا إذا حدد الدستور عمر البلوغ القانوني حسب القياسات العلمية المتبعة. لذلك، يجب أن يكون الضابط والمرجع الوحيد هو الدستور والقوانين التي ننظم تلك العلاقة في النموذج المفقود.
من تبعات التصادم بين ما هو فردي أو فرعي مع ما هو عام ووطني دون وجود نموذج ناظم واستراتيجية لإدارة التنوع فإنه سيجعل من المهيمن سياسيا أن يفرض إرادته في عملية إدارة التنوع وسيجعل ما هو فرعي هو الأساس في تفسير ما هو عام كالدستور مثلا. لا يمكن للدستور أن يعود في تشريعاته لمدونة تمثل دين أو طائفة أو فئة معينة ويجعلها مرجعا في تفسيراته لأن الدستور يفسر نفسه ويعود لنفسه من خلال مواد عامة قد حددت شكل الدولة والنظام والتي بدورها تحدد القوانين الأكثر خصوصية. عندما يكون الدستور تابعا لمدونة فرعية فإنه سيتخلى عن مرجعيته الموضوعية، العلمية وعاميته ليكون رهنا لمرجعيات فرعية تنطلق من منطلقات ذاتية، تاريخية، غيبية وخاصة.
لا اعرف لماذا يتجاهل المشرع العراقي والسياسي العراقي في تفصيل المواد التي نص عليها الدستور في قوانين مفصلة واستراتيجيات عملية. ربما كان ذلك جزء من الفشل السياسي بتأجيل الكثير من القوانين المعطلة كقانون النفط والغاز وقانون منع العنف الأسري وغيرها من قوانين تزرع الغام مستقبلية. الدعوة هنا هي أن يتحول جدل تعديل قانون الأحوال الشخصية لنقطة نظام يفتح بها حوارا يشارك فيه الجميع من اجل انتاج نموذج ضابط واستراتيجية تحدد العلاقة بين الفرد والمجتمع، الفرد والجماعة، الفرد والدولة، وكذلك الجماعات فيما بينها والدولة.

Comments are closed.